أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور ياسر الدوسري إمام وخطيب المسجد الحرام، واستهل فضيلته خطبته الأولى قائلاً: تتعاقَب الأيامُ، وتتوالى الشّهورُ، وتمضـي السُّنون، والأعمارُ تُطوَى، والآجالُ تُقضَـى، والأبدانُ تَبلَى، وكلُّ شيءٍ بأجلٍ مسمَّى، وها نحنُ قدْ ودعنَا عاماً تقضَّتْ ساعاتُهُ سِراعاً، ومضتْ أوقاتُهُ تِباعاً، وكأنَّها طيفُ خيالٍ، أو ضيفٌ زارَ ثمَّ زالَ، وفي استقبالِ عامٍ وتوديعِ آخَرَ تذكرةٌ للمتدبِّرين وعبرةٌ للمتفكرين، {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}.
البصيرُ لا يركنُ إلى الخُدعِ، ولا يغترُ بالطمعِ، ومن أطالَ الأملَ نسِـيَ العملَ، وغفلَ عن الأجلِ فالعاقلُ الحَصيفُ هو مَنْ يتَّخِذُ مِنْ صفَحاتِ الدَّهرِ وانطوائِهِ وقفاتٍ للمحاسبةِ الجادَّةِ، ولحظاتٍ للمُراجعةِ الصّادقةِ، فيرتقي في مراتبِ الكمالِ البشـري الذي أمرَهُ اللهُ بنشدانِهِ، وشَحَذَ الهِمَمَ للسعيّ في بنائِهِ وإتقانِهِ فحقٌّ على كلِّ مُكلَّفٍ عَاقِلٍ، وحَتمٌ على كلِّ مُوقنٍ حَازمٍ، يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ لا يغفلَ عنْ مُحاسبةِ نفسِهِ، ومُراجعةِ وتقييمِ مَسارِهِ في ماضِيهِ وحَاضرِهِ ومُستقبلِهِ، ففي حوادثِ الأيامِ عِبَرٌ، وفي قوارعِ الدهرِ مُزدَجَرٌ، فالفُرَصُ تَفوتُ، والأجلُ مَوقوتُ، والإقامةُ محدودَةٌ، والأيّامُ معدودةٌ.
أنَّ النفسَ خُلقتْ أمـارةً بالسـوءِ تجري بطبعِهَا في ميدانِ المخالفةِ، وقدْ أُمِرَ العبدُ بتقويمِهَا وتزكيتِهَا، وأنْ يقودَهَا بسلاسلِ القهرِ إلى عبادةِ ربِّهَا، فإنْ أهملَهَا وأغفلَهَا جمحَتْ وشردَتْ وتمردَّتْ، ولم يظفرْ بهَا بعدَ ذلك، وإن قوّمَهَا وحاسبَهَا ارتدعَتْ وأذعنَتْ واستقامَتْ وإذا عَرَفَ الإنسانُ عيوبَ نفسِهِ وآفاتِهَا دفعَهُ ذلك إلى مَقتِهَا، والتذللِ والخضوعِ بينَ يَدي خالقِهَا، كما يدعوهُ ذلكَ إلى محاسبةِ نفسِهِ ومجاهدتِهَا، وتطهيرِهَا مِنَ الذنوبِ، وتنقيتِهَا مِنَ العيوبِ، وتزكيتِهَا طاعةً لعلّامِ الغيوبِ، راجياً بذلك الفوزَ والفلاحَ الذي أقسمَ اللهُ عليه في قولِهِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا }.
أنَّ محاسبةَ النفسِ كما تكونُ بعدَ العملِ فإنَّها تكونُ قبلَهُ وفي أثنائِهِ، فأمَّا محاسبتُهَا قبلَ العملِ فيكونُ بالوقوفِ عندَ أولِ همِّهِ وإرادتِهِ، ولا يُبادرُ بالعملِ حتى يتبينَ لهُ رجحانُ العملِ بهِ على تركِه وأما محاسبةُ النَّفسِ في أثنائِهِ فتكونُ بالاجتهادِ في تحقيقِ الإخلاصِ والمتابعةِ في العملِ حتى يفرَغَ منهُ وأما محاسبتُهَا بعدَ العملِ فتكونُ بالنظرِ في الفرائضِ والأوامرِ، فإنْ رأى فيهَا نقصاً بذلَ جهدَهُ، واستعانَ بربِهِ في تتميمِهِ وتكميلِهِ، وإتقانِهِ، ثم ينظرُ في المناهِي، فإنْ عَرَفَ أنَّهُ ارتكبَ منهَا شيئاً تداركَهُ بالإقلاعِ والتوبةِ النصوحِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحيةِ، والإعراضِ عنِ الأسبابِ الموصلةِ إليهِ فاتقوا الله، وحاسِبُوا أنفسَكُم، فإنَّ صلاحَ القلبِ وسلامتَهُ بمحاسبةِ النَّفسِ، وفسادَهُ وعَطبَهُ بإهمالِ النَّفسِ والاسترسالِ في ملذاتِهَا وشهواتِهَا، وإهمالِ ما بِهِ كمالُهَا، والسعيدُ هو مَن يستغفرُ لماضيهِ، ويستعدُّ لمستقبلَهِ وما يأتيهِ، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
إن شهرَ اللهِ المحرمِ شهرٌ رفيعُ القَدْرِ، عظيمُ الأجرِ، والصومُ فيه عبادةٌ جليلةٌ، والإكثارُ منه قربةٌ وفضيلةٌ، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ» ويتأكّدُ صيامُ يومِ عاشوراءَ وهو اليومُ العاشرُ من شهرِ المحرمِ، يومَ نجَّى اللهُ فيه مُوسَى عليهِ السلامُ وقومَهُ مِنْ فرعونَ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صومَهُ على سائرِ الأيامِ، فعنِ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما قالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ» وعَنْ أبي قتادةَ رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ».
المصدر: albwaabh.org